المقاولون والمعلمون والبناؤون في مكة المكرمة
البناء حرفة شريفة ، وضرورية في المجتمع الحضاري ، ولا تخفى أهميتها على الجميع ، وقد عمل في البناء الملائكة والأنبياء وذلك في بناء الكعبة أول بيت وضع للناس بمكة المكرمة ، أما ممارسة هذة المهنة فيكاد يكون البناء في مكة وفي بعض مدن الحجاز (مكة والمدينة وجدة والطائف) على نظام ونسق واحد من حيث التصميم والتنظيم والتفصيل ، والمواد المستعملة في البناء والمكونات الشكلية الخارجية والداخلية للبيت الصغير والكبير ، كالقصور وما شابهها ، وفيتحد الطراز دون اختلاف بين مدينة وأخرى من المدن الحجازية إذ تراه بنفس الطريقة في هذه المدن , وترى الاتباع العام في التفصيل الخارجي والداخلي يتكون من جلا وغرفة ومجلس وصفة ومخلوان ودهليز وديوان ، ومن ابراز الرواشين والمشربيات والكباريت والطيق (الشابابيك) (البيبان والبراندات) وأخيراً (البلكونات) ومن طول البيت أفقياً ، ومن بسطه أرضاً .
وكان البناؤون قبل أن تأتي هذه القوالب من الطوب الأحمر والأبيض ، كانوا يبنون بيوتهم باللبن ثم بالحجارة والطين إلى أن تطور الأ/ر فاستعملوا الآجر الأحمر المعمول في النار ، ومادته من الطين ، وكان محلهم بالنوارية ، والكعكية أو الرصيفة أخيراً .
قال الشيخ محمد طاهر الكردي : (بناء المنازل والقصور بمكة المكرمة يكون من الحجارة الصماء ، المأخوذة من جبال مكة المشرفة ، ويبنونها من تراب مكة ونورها ، وبقدر ما يزاد من النورة في البناء تكون البيوت أقوى وأشد ، مناجم النورة في مكة كثيرة ، وللعمال من أهل مكة مهارة في تكسير الجبال والصخور بالحديد والألغام منذ زمن بعيد ، وكانوا يبيعون الحجارة لعمل البناء بالمئات ، فالمائة من الحجارة كانت تساوي كذا من الريالات ، وكانوا ينقلون هذه الحجارة على ظهور الحمير من الجبال القريبة من مكة إلى نفس محل العمارة بها وكان هذا حالهم إلى سنة 1375هـ وهي السنة التي ورد فيها الإسمنت إلى مكة المشرفة بكثرة وافرة ، وبعد السنة المذكورة ، صار الناس يبنون بيوتهم بالإسمنت وأهملوا عمارتها بالحجارة ، وبذلك بطل تكسير الجبال وأخذ الحجارة منها للعمارات .
ولأهل مكة مهارة عجيبة في نحت الحجارة الصماء ، وتكييفها بالشكل الذي يريدونه ، فمنها الملساء ، ومنها الخشن ، ومنها المستدير ، ومنها المربع ، ومنها الأسطواني ، ومنها المخروطي ، ومنها المنقوش المزخرف ، ومنها التي لا نقش فيها . والحاصل أنه ما كان يوجد من يعرف ذلك في بلدة من البلدان مثل معرفة أهل مكة ، ومثلهم في ذلك أهل المدينة المنورة ، وليت هذه الصناعة لم تندثر) .
وكانوا عصبة في المعاملة حيث يجتمعون في المقاولات الكبيرة ويشتركون في الصياغات البنائية ، وفي المناقصات المعمارية ، وتنفيذ الأعمال والمشاريع الاستثمارية .
وكانوا قبل مجيء السيارات (الناقلات والقلابات) يستعينون بالحمير (الحمارة) وغيرها لإيصال مواد البناء إلى مكان العمل سهلاً وجبلاً .
وكان لهم شيخهم في هذه المهنة كغيرهم من أصحاب المهن ، وكان هناك (حمارة) وهم أصحاب الحمير ، خاصة في تجهيز ونقل المواد من مكانها إلى مكان العمل أينما كان .
وكانوا معروفين بالخبرة الواسعة ، والمهارة والدقة في البناء ، وكان لهم وجودهم وظهورهم المميز في مكة والمدينة والطائف وجدة وغيرها من مدن المملكة كينبع وتبوك .
أما اليوم فلم يبق منهم إلا القليل ، بل أقل من القليل ، متعهم الله بحياتهم وأسعد أحوالهم ، لما يرون من تلاشي صنعتهم واستبدالها بهذه المكائن الكهربائية والسيارات (الخلاطات الجاهزة) .
البنيان : قرأت في العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي عن البنيان ما يأتي :
قال النبي صلى الله عليه وسلم (من بنى بنياناً فليتقنه) ، وقالت الحكماء : لذة الطعام والشراب ساعة ، ولذة الثوب يوم ، ولذة المرأة شهر ، ولذة البنيان دهر ، كلما نظت إليه تجددت لذته في قلبك وحسنه في عينيك ، وقالوا : دار الرجل جنته في الدنيا ، وقالوا : ينبغي للدار أن تكون أول ما يبتاع وآخر ما يباع ، وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر حين اختط داره ليبنيها : هي قميصك إن شئن فضيق وإن شئت فوسع ، وكتب عامل لعمر بن عبد العزيز يستأذنه في بناء مدينة فكتب إليه : ابنها بالعدل ونق طرقها من الظلم .
درجات المعلمين وألقاب العُمال
للمعلمين والعمال درجات وألقاب فيما بينهم ، حيث لا ينتقل أحدهم من درجة إلى درجة عمل أرقى إلا بعد أخذ إذن من المعلم الكبير ، هذا إذا صلح أحدهم بعد التمرين والعمل الكثير لأن يكون بناء يستقل في بناء البيوت بنفسه ، وأذن له المعلم الكبير بذلك بعد أن يشرب الجميع عنده القهوة المعمولة بالحليب واللوز .
أما المعلم فإنه يرقى درجة واحدة فيكون (الريس) .
وكانوا إلى سنة 1375هـ يبنون بيوتهم من حجارات جبال مكة بعد تكسيرها فلما جاء الإسمنت إلى البلاد في سنة 1375هـ صاروا يبنون به وإليك أخي القارئ ترتيب تلك الألقاب والدرجات :
1 – الريس : وهو مهندس المنازل والعمارات وتحت إمرته جميع المعلمين والعمال ، وكلهم يتلقون أوامره ، والريس وجميع أنواع العمل كلهم من مكة المكرمة ليس بينهم أحد غريب ، وهذه بالطبع قبل عصرنا الحاضر .
2 – المعلم : هو الذي يشتغل بيده في البناء وهو المسؤول عن قوة البناء وضعفه ، ويشتغل في البناء حسب ما رسمه له الريس من الهندسة والتخطيط .
3 – القراري : وهو الذي يصلح الأحجار المأخوذة من الجبال ، بمعنى أنه يكسر من أطراف الحجر ، كل ناتئ منه ، وكل ما ضعف من أجزائه المستدقة ، حتى يبقى نفس الحجر صلباً من جميع الأطراف .
4 – الفلاتي : بفتح الفاء واللام المخففة ، وهو الذي يأتي بالأحجار عند القراري ليصلحها .
5 – المُروج : بضم الميم وفتح الراء ، وكسر الواو المشددة ، وهو الذي يناول المعلم النقل بفتح النون والقاف وهو الذي يناول المعلم الأحجار الصغار والخفيفة الرقيقة ، ليضعها تحت الأحجار الكبيرة أو بينهما حتى تستقيم ولا تتحرك .
6 – الخلاط : وهو الذي يخلط التراب بالنورة ويعرف قياسهما ومقدارهما ، ثم يعجن ذلك بالماء ويجعله طيناً صالحاً للبناء .
7 – الطيان : بتشديد الياء المفتوحة ، وهو الذي يناول الطين للمعلم ليبني به ، يناوله في المركن – بكسر الميم وسكون الراء – وهو ماعون خاص يوضع فيه الطين بقدر ما يحتمله الرجل ويمكنه رفعه ومناولته للمعلم .
كل هذه الأمور كانت في عمل بناء البيوت والعمارات بالحجار الجبلية والنورة البلدية بمكة المكرمة ، وقد تغيرت الأوضاع بل اندثر العمل والبناء بالأحجار والنورة البلدية فأصبحت البنايات كلها بالإسمنت والحديد .
ويعمل أفراد هذه المجموعة تحت امرة أحد المعلمين المخضرمين في المهنة ، وكان يحظى باحترام الجميع ، لأنه صاحب الفضل في تعليمهم المهنة ، وباسمه وسمعته تحدد جودة العمل فإذا عصى أحد من العمال أمره فإنه يوقع عليه العقاب المنع أو الطرد من المهنة ويحترم الجميع قراره ، والمنافسون عليهم احترام قرار العقوبة في شأن عامله العاصي حيث لا يقبل أحد بتشغيله دون إذنه . ومن العادات الحسنة أن المعلم المقاول يرعى مستخدميه ويقرضهم ويزوجهم ويعلمهم حتى يصبحوا مقتدرين على أداء العمل ، وكان الجميع يتقاضون أجرهم (باليومية) ولم تؤمن هذه المهنة مستقبلهم المادي ، حتى أنهم في شيخوختهم نراهم يبدون تذمراً ، مما آلت إليه ظروفهم المادية .
وللتاريخ ، فهناك المعلمون الكبار ، مثل المقاولين في الوقت الحاضر يقومون برعاية عمالهم وتربيتهم وتزويدهم بالمال على سبيل القرض وتزويجهم وغير ذلك .
ورش الحجارة واللغمجية بمكة
الورشة : هي المكان الذي يعمل فيه الحجارة – أهل صناعة الحجر – بعد ضربها وكسرها من الجبل لتجهيزها لتكون صالحة للبناء ، ويستخدمون في ذلك أداوات : (الديناميت) وبعض المعاول الحديدية ، ويسمونها (الفاقوش) والمطرقة ، والرش مثل معامل الطوب ومصانعه حالياً ، وكان هناك الكثير من الورش بمكة التي تجهز الحجارة ، فمنها على سبيل المثال :
ورشة في (أبو لهب) : من الجهة الشمالية ، فتكون قريبة لمن في تلك الجهة كجرول والبيبان والشهداء .
وفي المسفلة : من الجهة الجنوبية كذلك ، وفي المعابدة : وفي الحافير ، وفي شعب عامر ، وجياد ، وكانت مجهزة بالمواصلات وهي (الحمير) لايصال الحجارة إلى مكان العمل بأجرة مقدرة معلومة ، وكان أصحاب الورش يتفننون في نقش الحجر ليصبح نامعماً أملس ، حيث يساعد (القراري) والمعلم والفلاتي ، والمروج في إخراج البنيان في صورة حسنة ، تسر الناظرين ، وتريح (المنقل) من تعب التعديل والتقويم .
وكذلك المعلم له دور فعال في رص الحجارة بيده ، وتقويمها بميزانه (الخطي أو المائي) وربما استغنى عن الميزان بعدالة الحجارة ونعومتها وملاستها فيكون البنيان مثل المسطرة القائمة .
وما ذاك إلا من (المعلمانية والحرفنة) في التكحيل الجميل للحجارة المكحلة على يد المعلم الماهر الباهر .
ويقول الكردي : (وكان نقل الأحجار التي تكسر من جبال مكة المكرمة لبناء البيوت والعمارات في داخل البلدة ، يتم بواسطة الحمير فيعملون لكل حمار من أخشاب الأشجار القوية أربع مثلثات متساويات الساقين ، ثم يجعلون كل مثلثين متقابلين بينهما نحو نصف متر ثم يوصلون رأسها بخشبة كما يوصلون رؤوس ساقيهما بخشبة أيضاً ، ثم يجعلون بين ساقيها خشبتين أيضاً فيكون كل مثلثين بمثابة قطعة واحدة وسطهما حال ثم يضعون كل مثلثين في جانبي الحمار من فوق البردعة بعد ربط أطراف ساقيهما ببعضها بحبل غليظ قوي ثم يجعلون قطع الأحجار المكسرة من الجبال في داخل المثلثين من الجانبين في كل جانب نحو أربعة أحجار أو خمسة بحسب كبر الحجارة وصغرها ثم يأتون بها فوق الحمير من محل تكسير الجبال إلى داخل البلدة حيث يتم البناء ، وكذلك كان الأمر بالنسبة لنقل النورة بواسطة الحمير بعد وضعها في كيس من الخيش .